على الرغم من قرابة مليون ونصف المليون طلعة جوية ضد ألمانيا في الحرب العالمية الثانية، فإن الولايات المتحدة وبريطانيا فشلتا بسبب افتقارهما إلى التجربة في تدمير نظام النقل الذي كان يغذي غرف الغاز والمحارق النازية. وبعد الحرب العالمية الثانية بخمسة وثلاثين عاماً كاملة، لم تنجح أميركا- على الرغم من تفوقها البحري المؤكد- في حماية "شعب القوارب" الفيتنامي. ولا شك أن كوننا نحن وحليفانا القادرين على استخدام القوة خارج حدودهما- فرنسا وبريطانيا- مشغولون جميعاً ومنقسمون على أنفسنا الآن بسبب الحروب التي تدور في الشرق الأوسط، أمر يُعد من قبيل سوء الحظ العاثر بالنسبة لشعب دارفور. معنى ذلك الانشغال والانقسام، أن المذبحة الجماعية التي تدور رحاها الآن في ذلك الإقليم ستتحول، أو لعلها قد تحولت بالفعل، إلى طفل لقيط تُرك أمره للمنظمات والجماعات الخيرية كي تعتني به، وتساهم بذلك من دون قصد، في إضعاف إمكانية اتخاذ عمل حاسم من خلال تركيزها فقط على الإجراءات الإنسانية المتصلة بالإغاثة، وعلى ممارسة الدبلوماسية الهشة التي لا تحل مشكلة ولا تحسم أمراً. وفيما تتحدى حكومة السودان رغبات العالم بل وإرادته كذلك، ويقترب فيه عدد القتلى من نصف المليون، فإن الشيء الذي يدعو للأسى هو أنه بإمكاننا حقاً سواء بمفردنا أو بالتنسيق مع حلفائنا إنقاذ سكان دارفور. فعلى الرغم من أن دارفور جزء من السودان، فإنها في الحقيقة بعيدة عن مركزه، وعن مصادر قوته العسكرية. لذلك، يمكن القول إن كل بوصة من الـ600 ميل التي تفصل بين الخرطوم ودارفور، يمكن أن تتحول إلى مصيدة لأي قوة تابعة للجيش السوداني تعمل في تلك المنطقة بعيداً عن مصادر إمدادها وإسنادها. كذلك، يمكن أيضاً حرمان الجنجويد من قدر كبير من العون الذي يتلقونه، بمجرد قطع خطوط الإمداد المنهكة التي تصل بينهم وبين الجيش السوداني. ولكن المتطلب الأول لإقامة نطاق عازل حول قوات الجيش في السودان، هو قطع خطوط الإمداد الجوية لتلك القوات، وهو ما سيتطلب تنفيذ ضربات جوية تنطلق من على حاملات طائرات لتدمير الـ51 طائرة قتال، و25 طائرة نقل و44 طائرة عمودية التي يمتلكها الجيش السوداني، وكذلك مستودعات الذخيرة، ومنشآت الصيانة، والمطارات القليلة القادرة على إسناد الناقلات الثقيلة، والطائرات المقاتلة. ولو وافقت تشاد على استقبال قوة حملة أميركية صغيرة الحجم، تتكون من طائرات إمداد من طرازA-10 التكتيكية، فإن عدداً قليلاً من تلك الطائرات سيكون قادراً على النيل من الجزء الباقي من مدرعات السودان، وعلى ضرب أي قوة من قوات مليشيا الجنجويد تشكل خطورة على السكان المحليين. والحقيقة أنه لم يكن هناك داع لكل ذلك، لو كانت لدى الولايات المتحدة منذ البداية، الرغبة في المضي قدماً نحو القضاء على إمكانيات النظام السوداني، التي تمزقت إلى حد كبير بسبب الانقسامات المتعددة لقطاعات كبيرة من سكانه. ويجب ألا نجزع من مثل هذا الاقتراح، لأنه يتعلق بضرب حكومة عملت طويلاً من أجل ذبح مئات الآلاف من شعبها سواء في الجنوب أو في الغرب، وساندت الإرهاب الدولي، وهددت معظم الدول المجاورة لها. وإذا ما نظرنا إلى المقترح السابق وإمكانية تحقيقه بالفعل، فإن هناك سؤالاً سيتبادر إلى الذهن مؤداه: ماذا سيفعل النظام السوداني؟ وأي خيار سيلجأ إليه في هذه الحالة؟ هل سيرجح خيار الإبادة، أم خيار التوقف عن القتل التي ينفذها في إقليم دارفور؟ وإذا ما وضعنا في اعتبارنا طبيعة السودان الجغرافية، وحقائق التوازن العسكري والبحري بيننا وبين أي دولة من الدول التي قد تكون راغبة في مساعدته، فيمكن الجزم بأن أي دولة لن تكون قادرة على حماية هذا النظام أو مساعدته، حتى إذا ما أرادت ذلك. بالطبع ستعارض العديد من الديكتاتوريات القمعية في العالم ضرب السودان، وقد تقرر الدولة الراعية له وهي الصين الإسراع في خطواتها الخاصة ببناء قوات بحرية قادرة على العمل في أعالي البحار، وهو ما شرعت فيه بالفعل، ولكن لا شيء سيحدث بخلاف ذلك. ومن نواحي الجذب الرئيسية لتلك المبادرة – الضربة العسكرية، أو التهديد بها- إنه إذا ما تم استخدامها بالشكل الصحيح، فإنها يمكن أن تحقق أهدافها وهو إيقاف جرائم القتل الجماعي، والضغط على السودان من أجل التفاوض على تسويات بنية صادقة. في رأيي أن التهديد وحده سيكون كافياً، ولن تكون هناك حاجة لضربة عسكرية فعلية إلا في أسوأ الأحوال. وإذا تم توجيه ذلك التهديد لحكومة السودان فإن ذلك، وفي الظروف الحالية سيكون أمراً مشرفاً في حد ذاته- وإن كان من الواجب تنفيذه منذ وقت طويل- لأن الأفراد الذين تجري إبادتهم في دارفور بلا رحمة هم بشر مثلنا في النهاية، وأرواحنا ليست أغلى من أرواحهم، وليس هناك أطفال يستحقون الإنقاذ أكثر من أطفالهم. إننا فقط القادرون على ذلك- توجيه التهديد أو تنفيذه إذا ما استدعى الأمر- لأننا نحن فقط القادرون على وضع حاملات طائراتنا وطيارينا على أهبة الاستعداد، لإنقاذ ذلك الشعب البائس الذي تناساه العالم طويلاً. مارك هيلبرين ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ زميل بمعهد كليرمونت- كاليفورنيا ومؤلف كتاب:" جندي الحرب العظمى". ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ينشر بترتيب خاص مع خدمة "نيويورك تايمز"